حين أبق يونس إلى الفلك وألقاه البحارة في بطن البحر، التقمه الحوت ونجا ولما تآمر إخوة يوسف فألقوه في غيابة الجب التقطه بعض السيارة ليصبح سيدا في قومه وعندما سقط ريان في قاع البئر واجتمعت حوله جرافات قومه، لفظ أنفاسه الأخيرة، ومات لكن الله نجاه ببدنه ليصبح لمن تحلقوا حول جثمانه الصغير آية.
إلى مئة ألف أو يزيدون، أرسل الله ذا النون إلى أهل نينوى في القرن الثامن قبل ميلاد المسيح، ولما لم يأنس منهم استجابة، خوفهم عذاب الله وسخطه، وفر على متن أقرب سفينة قبل أن يأتيه الأمر من السماء، فكان أن استهم البحارة وألقوه في عرض البحر ليستقر في بطن الحوت ثلاثة أيام كاملة، ليعود بعدها إلى مسقط ألمه ويكمل رسالته.
أما يوسف، فقد تآمر عليه إخوته، وقرروا حرمان أبيه من وجهه الوضيء وحنانه الجم، واستقروا على إلقائه في قعر جب، حتى يغيب خبره أو يأخذه بعض المارة من المسافرين.
وبالفعل، جاءت سيارة فالتقطوا الغلام، وحملوه معهم إلى مصر ليشتريه عزيزها بثمن بخس، وليمر بعدها بسلسلة من الأحداث العصيبة يتولى بعدها الإشراف على طعام الأرض وخراجها، ويمارس دعوته بأريحية وثقة.
لكن رسالة ريان بدأت وانتهت في قعر جب يمتد بعمق خيبتنا العربية من محيطنا الهش إلى خليجنا المستباح.
ريان نبي صغير لم يدر في خلد أهله يوما أن يتحول جسده الغض إلى رسالة أخيرة لقوم لا يجيدون القراءة ولا يحبون الرسل.
ألقت صرخات الطفل الواهنة ألواح يأس إلى عشيرة لا تحسن عشرة الصغار ولا ترحم ضعفهم فوق التلال الباردة واستهم الظالمون والمستضعفون في المغرب، ووقع عليه السهم، فألقوه في غيابة الجهل ليدفع هو ضريبة الفقر والخوف والجوع وحده.
لم يخرج ريان من قعر البئر ليصافح الواقفين حول قبره الضيق أو ليلقي عليهم عظات بليغة، فقد انتهي للأبد عصر الرسالات وحل محله عصر الرسائل.
فجاء الجثمان الطري بمثابة رسالة أخيرة من سماء تلبدت بالغضب مما يلقاه صغار هذا الكوكب من مستبديه الكبار، لكن أحدا من المحوقلين لم يكلف نفسه عناء قراءة المشهد وتفسيره لشهود الواقعة هناك.
اكتفى الواقفون فوق جبال اللامبالاة في تطوان برفع أكفهم الغليظة بالتكبير والدعاء، وشاركهم المغردون من جميع بقاع الهم أناتهم وابتهالاتهم الجوفاء.
لكن دعوة واحدة من قلوب الواقفين والقاعدين والركع السجود لم تعرف طريقها نحو السماء.
يعلم الجميع أن أبواب السماء غير موصدة، ويؤمن الكل أن إله السماء ليس بعيدا عن وشوشات الواقفين عند التلال القريبة.
لكنهم كانوا يدركون في أعماق حزنهم أن دعواتهم ما كان لها أن ترتفع فوق رؤوسهم الفارغة شبرا واحدا لأنها ملأى بغبار المعصية ودنس الرذيلة.
رحل ريان أيها المدعون، وشيع الكثيرون منكم جثمانه الدامي من بيت جده إلى مقبرة العائلة.
وعدتم إلى بيوتكم لتمارسوا أدواركم التافهة في مسلسل القبح الأخير حتى القيامة الأخيرة، وكأن حزنا لم يكن.
وقريبا تنسون ريان وتمرون على بئر الخيانة دون أن يستوقفكم صدى أناته هناك ولأنكم تنسون بسرعة، فإن مأساة ريان سوف تتكرر آلاف المرات في تطوان ومراكش وفي الجزائر ومصر والسودان وليبيا واليمن وسوريا والعراق، ولسوف ترفعون أكفكم كالعادة نحو السماء دون أن يستجاب لكم.
ألا فليعلم المتباكون من الفيسبوكيين والتويتريين والإنستجراميين أن حملاتهم السيبرية العنترية يمكن أن تسافر إلى أقاصي الأرض، لكنها أبدا لن تصافح وجه السماء، وأن دعواتهم الليلية “الخالصة” لن تزكيها آلاف اللايكات، لأن الله وحده يعلم مدى الخراب الذي لحق بقلوب المصطفين حول الجثة الهامدة.
في الوقت الذي انشغلت الأعين والكاميرات بمتابعة أنات الفتي وحشرجاته، كان الطائرات المدججة بالأعلام العربية تسقط حممها العبقرية فوق الرؤوس الآمنة وأمام المنازل التي تصلب أهلوها أمام الشاشات لمتابعة مجريات الموت، كان ثمة أطفال يرتجفون من البرد ويتجمدون في العراء.
وعندما كانت الجرافات منهمكة في البحث عن مخرج آمن لطفل البئر، كانت جرافات أخرى تدمر البيوت فوق رؤوس أطفالها.
كاذبون نحن أيها الجنرالات والحكومات والشعوب لا فرق بيننا إلا في درجة التبجح والادعاءات الزائفة فنحن أمة تجيد قتل أطفالها وتدمير أحلامهم الوادعة ونحن أمة تجيد تمثيل دور الضحية، ونحن الجلادون بامتياز.